فصل: مطلب في تخيير المرأة ونساء الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وتبرج النساء وتسترهن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم طلبوا من رسول اللّه أن يرسل إليهم أبا لبابة ليستشيروا برأيه، فأرسله، وقد ذكرنا قصته مفصلة في الآية 27 من سورة الأنفال المارة فراجعها تعرف مزية الإيمان وسجية أهله.
ثم جاء الأوس إلى الرسول وقالوا إن بني قريظة موالينا وبالأمس حاصرت بني قينقاع فوهبتهم إلى عبد اللّه بن سلول الخزرجي لأنهم مواليهم، قال يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا بلى، قال فذاك إلى سعد ابن معاذ، فرضوا وذهبوا إليه وأتوا به من خيمة رفيدة التي كانت تداوي المرضى لأنه لم يشف من جرحه الذي أصابه في وقعة الخندق حينما قتل علي ابن ود العامري المار ذكره في الآية 25، فلما وصل قال صلّى اللّه عليه وسلم قوموا لسيدكم، فقاموا إليه وأنزلوه، وقالوا له يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك فإن رسول اللّه حكم فيهم، قال قد آن لسعد أن لا تأخذه في اللّه لومة لائم، فقال لهم عليكم عهد اللّه وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت؟ قالوا نعم، وقال صلّى اللّه عليه وسلم نعم، قال إني أحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبي الذراري والنساء، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لقد حكمت بحكم اللّه، يعني الآيتين 26- 27 المارتين اللتين نزلتا فيهم، وإنما حكم بهذا الحكم القاسي برأيه دون مشورة أحد وصوبه حضرة الرسول لأنهم نقضوا عهد رسول اللّه في وقعة الخندق المارة في حالة هي أشد الأحوال على المسلمين، وأرسل سعد إلى خيمته وبسببهم نجم النفاق وألقى الخوف في قلوب الناس أجمعين.
وهو حكم موافق لما في علم اللّه أزلا وألقاه على قلب سعد، كما ألقى في قلوبهم الرضاء بحكمه، فقتلوا الرجال وهم ستمائة، وقيل سبعمائة، وقسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذراري والنساء ما بين السبعمائة والألف، وقسم أيضا الأموال بين المسلمين.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقول لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، أعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده، وروى البخاري عن سلمان بن مسروق قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم، قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْواجكَ إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ} متعة الطلاق {وَأُسَرّحْكُنَّ سَراحًا جَميلًا} (28) من غير إضرار بالإمساك إن كنتن لا تردن البقاء على حالتكنّ هذه معي على ما هي عليه من الضيق والضنك {وَإنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخرَةَ} فتصبرن على ما أنتنّ عليه ولا تكلفني ما ليس عندي فتكونن من المحسنات {فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ للْمُحْسنات منْكُنَّ أَجْرًا عَظيمًا} (29) نزلت هذه الآية لما سألن رسول اللّه زيادة نفقتهن وآذينه بغيره بعضهن هجرهن وآلى أن لا يقربهن شهرا.
روى مسلم عن جابر بن عبد اللّه قال دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللّه فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم اقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد رسول اللّه جالسا وحوله نساؤه واجما مهتما ساكنا، فقال لأقولن شيئا اضحك به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فقال يا رسول اللّه لقد وأتيت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأ عنقها، فضحك رسول اللّه فقال هنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة فوجا عنقها، وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها، أي دقها، وكلاهما يقول تسألن رسول اللّه بما ليس عنده، قلن واللّه لا نسأل رسول اللّه شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرا وتسعة وعشرين يوما، ولما نزلت هذه الآية بدأ بعائشة فقال إني أريد أن اعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حيث تستشيري أبويك، قالت وما هو يا رسول اللّه؟ فتلا عليها الآية، قالت أفيك يا رسول اللّه استشير أبوي؟ بل اختار اللّه ورسوله والدار الآخرة واسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن اللّه لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، بل بعثني معلما مبشرا.
الحكم الشرعي إذا خيّر الرجل امرأته فاختارت نفسها يقع عليها طلقة بائنة، وإذا اختارت زوجها لا يقع عليها شيء ومن هذا القبيل التخيير الذي ذكره اللّه تعالى في هذه الآية، فلو أنهن اخترن الدنيا لفارقهن رسول اللّه، ولكن هنّ لكمال عقلهن لم يخترن إلا رسول اللّه، فلم يفارقهن، وكذلك إذا جعل أمرها بيدها وطلقت نفسها يقع عليها طلقة بائنة فقط، وكذلك إذا تزوجها على أنه إذا تزوج عليها تكون طالقة فتزوج طلقت طلقة بائنة، وكذلك إذا جعل أمرها بيدها في صك العقد فلها أن تختار الطلاق متى شاءت إذا لم يقيد بقيد، وإذا قيد وجب اتباعه.

.مطلب في تخيير المرأة ونساء الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وتبرج النساء وتسترهن:

روى البخاري ومسلم عن مسروق قال ما أبالي خيّرت امرأتي واحدة أو مئة أو ألفا بعد أن تختارني، ولقد سألت عائشة فقالت خيرنا رسول اللّه فما كان طلاقا، وفي رواية فاخترناه فلم يعد ذلك شيئا، وعليه فلا وجه لقول من قال إذا اختارت نفسها يقع طلاق ثلاثا وإذا اختارت زوجها يقع واحدة، أما عدم قربانهن شهرا فإنه صلّى اللّه عليه وسلم آلى على ذلك وبرّ بيمينه.
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم اقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا وكن خمسا من قريش عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أمية وسودة بنت زمعة وأربعا غير قرشيات زينب بنت جحش الأسدي وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حي بن اخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وكلهن من لم يلدن له شيئا، وكل أولاده من خديجة رضي اللّه عنها التي كانت منفردة عنده حتى توفيت، وهي أول امرأة تزوجها ولم يتزوج عليها عدا ابراهيم، فإنه من الجارية مارية القبطية التي أهداها له عظيم القبط مع بغلة وطبيب فردّ الطبيب وقبلها والبغلة، فقيل له إنكم في بادية وتحتاجون للطبيب أكثر من غيركم، فقال لا حاجة لنا به إنا قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لم نشبع.
أي أن الطبيب يحتاج له من يقترف ذلك، ولأن المرض يكون من الأكل والشرب والحر والقر قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت لما مضى تسع وعشرون ليلة أعدهن دخل علي الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فقال أي عروة قالت عائشة تراني يا رسول اللّه قلت أقسمت أن لا تدخل شهرا وانك دخلت في تسع وعشرين أعدهن؟ قال الشهر تسع وعشرون.
وسيأتي بحث الإيلاء أول سورة المجادلة إن شاء اللّه.
قال تعالى: {يا نساءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفاحشَةٍ} مطلق معصية من نشوز وغيره وإنما سميت معصية الزوج فاحشة من الزوجات هنا بالنسبة لمقام حضرة الرسول لأن كل ما يقع من خلافه فهو عظيم عند اللّه بالنسبة لمقام رسوله، وإلا فإن اللّه تعالى صان نساء الأنبياء عن كل فاحشة بمعناها الحقيقي الظاهري، وهذا جار مجرى قوله تعالى: {لَئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية 66 من سورة الزمر ج 2، والشرك في حقه محال، لذلك صرف المفسرون الخطاب لغيره صلّى اللّه عليه وسلم، أو أنه إليه والمراد به غيره، ثم وصف تلك الفاحشة بأنها {مُبَيّنَةٍ} ظاهرة معلومة {يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضعْفَيْن} وهذا أيضا بالنسبة لمقامه وشرفهن على غيرهن {وَكانَ ذلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا} (30) كغيره من أفعاله إذ لا يحول دونه أعوان ولا شفعاء ولا اخوان ولا أولياء ولا فرق فيه عنده بين الشريف والوضيع، فكونهن تحت رسوله لا يدفع عنهن العذاب، كما أن صغر ذنوبهن لا يكون سببا في تقليل العقوبة عنهن أو تخفيفها، لأن اللّه تعالى له أن يعاقب عقابا كبيرا على ذنب صغير عندنا معشر أهل السنة والجماعة، وله أن يعفو عن أكبر ذنب لأنه لا يسأل عما يفعل.
{وَمَنْ يَقْنُتْ منْكُنَّ للَّه وَرَسُوله وَتَعْمَلْ صالحًا} في طاعته وتسليمها لأمر الرسول {نُؤْتها أَجْرَها مَرَّتَيْن} الأول على الطاعة والثاني لشرف اقترانها بحضرة الرسول أي بنسبة العذاب على النشوز والمخالفة {وَأَعْتَدْنا لَها} زيادة على ذلك {رزْقًا كَريمًا} (31) في الجنة ورضوانا من اللّه {يا نساءَ النَّبيّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ منَ النّساء إن اتَّقَيْتُنَّ} مخالفة أمر الرسول لأن قدر كن عنده أعظم من غيركن {فَلا تَخْضَعْنَ بالْقَوْل} لأحد غيره بأن ترققن أصواتكن وتعنجن إذا كلمكن أحد أو سألكن من شيء أو حاجة {فَيَطْمَعَ الَّذي في قَلْبه مَرَضٌ} من نفاق وريبة بل اغلظن له بالقول {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (32) ملؤه الأدب والوقار حسنا في معناه خشنا في مبناه مقتصرا على الجواب الكافي لأن الزيادة ممنوعة كما أن اللين ممنوع، وإنما أمرهن اللّه بهذا لئلا ينسبن لقلة الأدب وهن منبعه وعنهن يؤخذ {وَقَرْنَ في بُيُوتكُنَّ} لا تبارحنها أبدا إلا لحاجة ماسة لأنه أوقركن {وَلا تَبَرَّجْنَ} فتظهرن محاسن أعضائكن وتبرزن معالم زينتكن وتلبسن ما يمثل أعضاءكن وتتبخترن في مشيتكن {تَبَرُّجَ الْجاهليَّة الْأُولى} مثل نسائهم إذ كنّ يفعلن ذلك كله قبل الإسلام وقد لا يزيد ذلك على التبرج الموجود الآن في زماننا الذي حلّ بنا منذ الاحتلال الإفرنسي إذ بلغ مبلغ الخلاعة، أجارنا اللّه وحفظ الإسلام منه، لأنه أدى لإفساد الأخلاق والآداب، وفكك عرى الزوجية عند بعض الجاهلين ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
كان زمن النمروذ الجبار على زمن إبراهيم عليه السلام تلبس المرأة الدرع شلحة موشى باللؤلؤ تمشي به وسط الطريق وتعرض نفسها للرجال، وكان زمن داود عليه السلام تلبس المرأة قميصا موشى بالدر غير مخيط الجانبين، فإذا مشت يرى منها كل شيء، وما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كذلك حتى ظهر الإسلام، ومنع ذلك كله، وهذا في غير المتدينات في الأزمان كلها، أما المندينات فلا يرى منهن حتى أطراف أناملهن، وقيل في مثلهم ممّن هن على شاكلتهن:
يغطين أطراف البنان من التقى ** ويخرجن جنح الليل متّزرات

ومع الأسف قد عادت جاهلية الآن مثل أو أعظم من تلك في المتهتكات إذ يمشين الآن بالشلحة التي لا تغطي كتفيها وركبتيها وقد تمشي بلا سراويل عارية الصدر والكتفين والأرجل حتى الركبتين أما في محل الرقص واللعب على ما يقولون فيكن مجردات عدا ما يستر السوءتين فقط، وهذا لقبحهما لا لشيء آخر ليجذبن قلوب السفهاء إليهما والمتشبهات بهن اللاتي يزعمن أنهن متحجبات يلبسن السراويل بمقدار الشبر ولباسا يمثل أعضاءهن لا يصل إلى ركبتهن وبعضهن بلا جورب ويصبغن أيديهن وأرجلهن وأوجههن، ومنهن من يغطين وجوههن بشيء رقيق يغطي ما فيهن مما يحببن ستره وكتمه كالكف والنعش ويزيد في حسنهن، فقد نكصنا على أعقابنا، وقد نهانا رسول اللّه أن نرجع القهقرى.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إلي رجال منكم، حتى إذا هويت إليهم لأنالهم اختلجوا دوني، فأقول أي رب أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
ورويا عن أنس مثله بزيادة فأقول سحقا لمن يعدل بعدي.
ورويا عن أبي هريرة مثله بزيادة أنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى.
وجاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم إذا تعطرت المرأة فمرت بالقوم ليشموا ريحها فهي زانية.
فيا أيها الأولياء اتقوا اللّه وحافظوا على أعراضكم وامنعوا نساءكم مما نهى اللّه عنه لئلا تكونوا في عداد من يعرض عنهم حضرة الرسول حين يرد الناس حوضه، كما في الأحاديث الصحيحة.
واعلموا أنكم مؤاخذون عند اللّه لأن سكوتكم عليهن رضى، وقد يعاقب الراضي كالفاعل، راجع الآية 38 من سورة المائدة الآتية، لأن من المنكر عدم النهي عن المنكر.
قال تعالى: {وَأَقمْنَ الصَّلاةَ وَآتينَ الزَّكاةَ وَأَطعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما يريدانه منكن {إنَّما يُريدُ اللَّهُ ليُذْهبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْت} والرجس يشمل أنواع الإثم كلها يا أهل بيت محمد، ويا آل محمد، ويا أمة محمد، ونصب أهل هنا على النداء أحسن وأليق منه على الاختصاص لزيادة الشرف بندائهم من قبل ذي الجلال والإكرام الدال على التعظيم والتبجيل.
ثم أكد انمحاق الرجس عنهم ومحوه بالكلية بقوله: {وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهيرًا}.
(33) رجالا ونساء ولذلك ذكر الضمير، وتدل هذه الآية على أن نسائه من أهل بيته وهو كذلك، ويراد بأهل البيت عند الإطلاق آله صلّى اللّه عليه وسلم وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس، وتشير الأوامر أوائل هذه الآية إلى شمول نساء المؤمنين كافة لأن الأمر بالصلاة والزكاة والطاعة لا يختص بنساء النبي فقط بل يعم غيرهن من المسلمات أجمع، أما آخرها فهو خاص بنساء النبي وكذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى في بُيُوتكُنَّ منْ آيات اللَّه وَالْحكْمَة} والنبوية وكل ما تسمعنه من حضرة الرسول وترونه من أفعاله مما يقتدى بهما لأنه من الحكمة {إنَّ اللَّهَ كانَ لَطيفًا خَبيرًا} (34) وبعد أن أنزل اللّه هذه الآيات في نساء الرسول قال نساء المؤمنين ما أنزل اللّه فينا شيئا لأن الآية 195 في آل عمران كانت في حق الهجرة يردن عدم دخولهن في هذه الآية، فأنزل اللّه جل إنزاله {إنَّ الْمُسْلمينَ وَالْمُسْلمات} الذين سلم الناس من لسانهم وأيديهم وسلمت أشخاصهم من العيوب الحسية والمعنوية {وَالْمُؤْمنينَ وَالْمُؤْمنات} باللّه ورسله وكتبه واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من اللّه تعالى، وإنما ذكر الإسلام والإيمان لأنهما الأصل لمادة المدح الدنيوي والأخروي {وَالْقانتينَ وَالْقانتات} المتواضعين للّه الخاضعين لأوامره والطائعين عن رغبته {وَالصَّادقينَ وَالصَّادقات} بأقوالهم وأفعالهم ونياتهم، وإنما وصفهم اللّه تعالى بالطاعة والصدق لأنهما عنصر الإسلام والإيمان وملاك مراد الأزواج {وَالصَّابرينَ وَالصَّابرات} على المصائب كافة، فلا يجزعن ولا يشكون بل يفوضون أمرهم إلى اللّه.
والصبر نصف الإيمان وقد ذكره اللّه في القرآن ما يزيد على تسعين مرة لعظمه وعظم المتحلين به عنده، {وَالْخاشعينَ وَالْخاشعات} المستكينات الطائعات المتذللات الساكنات.
واعلم أن ملاك الخضوع يكون في الصوت والبصر والجوارح وإنما وصفهن بالصبر والخضوع لأنهما من متممات الإيمان والإسلام، ومن دواعي السرور للأزواج {وَالْمُتَصَدّقينَ وَالْمُتَصَدّقات} بما يفضل عن الحاجة وبما يؤثر على النفس {والصَّائمينَ وَالصَّائمات} الفرض والنفل وهاتان الصفتان من أركان قوام الهيئة الاجتماعية وأركان الدين القويم {وَالْحافظينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافظات} من كل سوء {وَالذَّاكرينَ اللَّهَ كَثيرًا وَالذَّاكرات} لأن ذكر اللّه ينور القلب ويحمي من الوقوع في المنكر ودوامه يوجب التيقظ والمحافظة على هذه الأوصاف العشرة التي ما بعدها وصف، فهي جامعة لمحاسن الأخلاق والآداب وكمال أركان الدين ونهايته مع اللّه والناس أجمعين، وعنايته في العطف على الفقراء والأقارب والمساكين، وهؤلاء الذين يتصفون بهذه الأوصاف المزدوجة المحافظون عليها {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفرَةً} سترا لذنوبهم وعفوا عن عيوبهم المتقدمة والمتخللة بينها، فلا يطلع عليها أحدا في الدنيا {وَأَجْرًا عَظيمًا} (35) في الآخرة راجع الآية 59 الآتية، ولما أراد صلّى اللّه عليه وسلم زواج بنت عمته زينب بنت جحش الأسدية لمولاه زيد المار ذكره في الآية 4 إذ بين للناس أنه ليس بغلامه وكان أخوها عبد اللّه وأمهما أمية بنت عبد المطلب كرها زواجها له لأنه شهر بأنه عبد وكرهت هي ذلك أيضا وكانت حديدة المزاج، فأنزل اللّه تعالى: {وَما كانَ لمُؤْمنٍ وَلا مُؤْمنَةٍ إذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخيَرَةُ منْ أَمْرهمْ} بل يكون للّه ورسوله فقط لأن مخالفتهما عصيان {وَمَنْ يَعْص اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبينًا} (36) فرضوا كلهم تسليما لأمر اللّه ورسوله وزوجهامنه على ستين درهما وعشرة دنانير وخمارا ودرع وملحفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر، لأنه في الحقيقة ليس بعبد كما مرت الإشارة إليه في الآية المذكورة آنفا، وإلا لما زوّجها إليه صلّى اللّه عليه وسلم وهي بنت عمته ومن سنته الكفاءة بين الزوجين، ثم ألقى اللّه كراهتها في نفس زيد بسبب تعاظمها عليه وتباهيها بشرفها ولما تعلم عنه أنه كان خادما وصارت لا تحترمه ولا توقره بلسانها، فذكر ذلك لحضرة الرسول مرارا وهو يأمره بالصبر عليها علتها تتبدل إلى أحسن وهي لا تزداد إلا عدم مبالاة به، فقال يا رسول اللّه لابد لي من طلاقها، فقال له هل رابك منها شيء؟ قال لا واللّه وإنما ما ذكرت لك من أذيتي وإهانتي بتكابرها علي، فأمره بإمساكها أولا وثانيا وثالثا وهو يصبر معها على مضض لما هو عليه من عزة النفس والمروءة والشهامة ويخشى غضب الرسول إن طلقها، ولم يزل يراجع الرسول حتى خيره بطلاقها وإمساكها، فطلقها، وكان اللّه أعلم رسوله بأنها ستكون بعد من أزواجه وان زيدا يتزوجها ويطلقها، فعاتب اللّه نبيه على إلحاحه على زيد بإمساكها مع علمه بما يئول من حالها إليه وأنه مطلقها لا محالة، فأنزل جل إنزاله {وَإذْ تَقُولُ للَّذي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْه} بالإسلام وملازمتك {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه} بالعتق والزواج من ابنة عمتك {أَمْسكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّق اللَّهَ} فيها ولا تفارقها واصبر على أذاها وتمنّيه بتبدل حالها معه {وَتُخْفي في نَفْسكَ} أيها الرسول ما تعلم من حتم طلاقها منه وزواجها منك بإخبارنا إياك واعتقادك بوقوعه حتما وتريد أن تكتم {مَا اللَّهُ مُبْديه} للناس ومظهرة علنا لأن الزواج ليس بالأمر الذي يكتم {وَتَخْشَى النَّاسَ} يا حبيبي من أن يقولوا تزوج زوجة من تبناه وقد أخبرناك بأن المتبنى ليس بابن راجع الآية الرابعة المذكورة آنفا {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} من الناس إن كنت ترى أن ذلك مما يخشى والخوف نتيجة العلم، قال تعالى: {إنَّما يَخْشَى اللَّهَ منْ عباده الْعُلَماءُ} الآية 28 من سورة فاطر في ج 1 وفي تخصيص الخشية بهم دليل على اعتقاد الأمانة بهم، فعلى الأمة أن يأخذوا بأقوالهم ويعتقدوا فيهم بأنهم لا يبلغونهم شيئا إلا عن اللّه ورسوله وليس عليهم أن يحاجوهم ويطلبوا منهم الدليل أو أنهم يقولون لهم لم لا تفعلوا أنتم ما تأمرون به راجع الآية 105 من آل عمران المارة والآية 44 من البقرة أيضا ترى ما تقر به عينك ويغنيك عن غيره، أي أن هذا الذي تخشاه، هو حلال مطلق لا عيب فيه ولا استحياء.